البرديات المعروفة باسم «شكاوي الفلاح الفصيح»، التي تعد أول مظاهرة احتجاجية مؤلفة من شخص واحد للمحكوم في مواجهة الحاكم.
وبالرغم من الظلم الفادح الذي يعرضه، صاحب الشكاوي فإن اللغة التي تكلم بها غلب عليها طابع التأدب في مواجهة المسؤول الكبير إذ يعلي من شأنه ويعظم من قدره، ويعترف بمقامه، ومن بين هذه الأناشيد أربعة لها طابع خاص تدل علي أن كاتبها مؤلف واحد وهي بالطبع تبدأ بمديح طويل للإله وفي النهاية تلتمس مساعدته علي عدو قوي حرم «كاتب الشكاية» غدراً من وظيفته، فالله هو الذي يقاوم هذا العدو لأنه «القاضي العادل الذي لا يقبل الرشوة» ذلك لأنه كان ينظر للإله باعتباره، وزيراً وباعتباره، القاضي الأكبر!!
ويقول الشاكي لربه «إنك تساعد المحتاج ولكنك لا تمد يد المساعدة للقوي، هدئ روع التعس يا أيها الوزير واجعله في حظوة حور القصر «وحور يعني الملك».
ورجح الأثريون أن هذه الشكوي ترجع لعصر «رمسيس الثاني» وكان صاحب الشكوي رجلاً شهيراً من حملة الأقلام وربما كان شاعراً من المغضوب عليهم وبعد تمجيد رمسيس الثاني بما يكفي يقول الشاكي في آخر النص البديع «إنك رب الناس فيه فخرهم إله جبار أبدي قاض بين الناس ومتزعم قاعة القضاء ومثبت العدل ومهاجم الظلم ليت من تعدي علي يقتص منه انظر إنه أقوي مني وقد اغتصب مني وظيفتي وأخذها زوراً، أعدها إلي ثانية.. انظر أني أراها في يدي آخر».
أما شكاوي الفلاح الفصيح فظهرت في ٨ عرائض «شكاوي» وكان سليم حسن في موسوعته قد ذكر أنه توجد ٤ نسخ من كتاب «الشكاوي» وأكد الباحثون الأثريون أن قصة هذا الفلاح وشكواه تعود إلي عهد «الدولة الوسطي» في نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد في عهد الملك «نب كاورع» أحد ملوك «هراكليو بوليس - مدينة أهناس» وحمل هذا الملك لقب «خيتي» وتتلخص القصة في أن فلاحاً من مقاطعة الفيوم من إقليم وادي النطرون كان يسكن بلدة تسمي «حقل النطرون» وجد هذا الفلاح مخازن غلاله تكاد تكون خاوية فحمل حميره محصولات قريته واتجه نحو «أهناس» طلباً للمبادلة بالغلال وكان يتعين عليه في رحلته أن يمر في طريقه إلي العاصمة بمنزل «تحوتي نخت» وكان موظفاً كبيراً في معية رئيس الديوان.
وما إن مر الفلاح ببيت هذا الموظف حتي راقت حمير الفلاح لهذا الموظف «المسنود» فدبر حيلة للاستيلاء عليها عنوة وغصباً بمعاونة رجاله فاتخذ من أكل أحد الحمير بضعة أعواد من القمح في حقله سبباً ومبرراً لضرب الفلاح ضرباً مبرحاً واغتصاب «حميره» فمكث الفلاح بعد أن تلقي هذه «العلقة الساخنة» من الرجل واتباعه أمام دار تحوتي طيلة ٤ أيام يرجو فيها استعادة حميره المسلوبة غير أن قلب الرجل المسنود لم يرق له وظن أنه فوق المحاسبة فلم يعر الفلاح أي اهتمام فلماً علم الفلاح بعدل «رنزي» المدير العظيم لبيت الملك «أي رئيس الديوان»، ولي وجهه شطر المدينة ليشكو ما حاق به من ظلم
ولحسن الحظ فقد صادف الفلاح ذلك المدير العظيم وهو يتأهب لركوب قاربه، فأخذ يشكو إليه ويقص عليه ما لحق به من ظلم من الموظف الكبير لدي رنزي «تحوتي» فعل هذا بلغة رفيعة راقية وصادقة مما استرعي سمع واهتمام «رنزي» فأرسل أحد خدمه ليتقصي الأمر فعاد وأخبره، بصحة ما ذكره الفلاح، فعرض «رنزي» الموضوع أمام زملائه من الموظفين فكان من الطبيعي أن ينحازوا إلي صف زميلهم الطاغية وعندما رأي الفلاح أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن تقدم إلي «رنزي» مرة أخري وأخذ يقص عليه القصة في ٨ شكاوي
ومما جاء في المظلمة الأولي «إذا ذهبت لبحر العدل وسحت عليه في نسيم عليل فإن الهواء لن يمزق شراعك وقاربك لن يتباطأ، ومرساك لن ينكسر ولن يغوص قاربك حينما ترسو علي الأرض.
ولن يحملك التيار بعيداً ولن تري وجهاً مرتاعاً. إنك أب لليتيم وزوج للأرملة وأخ للمهجورة.. دعني أجعل اسمك في هذه الأرض فوق كل قانون عادل فتكون حاكماً.. خلا من الشره وشريفاً بعيداً عن الدنايا فهل لك أن تسمع: أقم العدل أنت الممدوح الذي يمدح من الممدوحين اكشف عني الضر انظر، انظر إلي إن حملي ثقيل» وعلي هذه الشكوي الفصيحة التي قدمها الفلاح إلي «رنزي» ذهب «رنزي» إلي جلالته وقال له: «سيدي لقد عثرت علي أحد هؤلاء الفلاحين «فصيح» وهو رجل سرق متاعه وانظر إنه قد حضر ليتظلم لي من أجل ذلك» عندئذ قال جلالته وكأنما يريد أن يسمع لفصاحة الفلاح: «دعه يتباطأ هنا دون أن تجيب عن أي شيء قد يقوله ولكي تجعله يستمر في الكلام الزم الصمت ثم مر بأن يؤتي لنا بذاك مكتوباً حتي نسمعه ولكن مد زوجته وأطفاله بالمؤونة ولابد أن تأمر بإعطائه الطعام دون أن يعلم أنك أنت الذي أعطيته إياه».
وجاء الفلاح ليتظلم مرة ثانية وقال: «يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي يا سيدي يا عظيم العظماء يا أغني منهم يا مثقال ميزان الأرض. لا تتحول.. إن السيد العظيم يأخذ فقط مما ليس له مالك.. تأمل، إن العدل يفلت من تحتك» ثم قال الفلاح الفصيح ما معناه «إن حاميها حراميها» وأن الذين يحكمون بالقانون يجورون علي متاع غيرهم وذلك الذي يكبح الباطل وذلك الذي يجب عليه أن يقضي علي الفقر يعمل بالعكس..
إن إصلاح الخطأ قصير ولكن الضرر طويل والعمل الطيب يعود إلي مكانه بالأمس وذلك الذي كان يجب أن يكون مرشداً أصبح مضللاً، وجاء في الشكوي الثالثة: «ضيق الخناق علي السرقة وارحم الفقير واحذر من قرب الآخرة، عاقب من يستحق العقاب ولا تجب علي الخير بالشر وصُد الفيضان علي حسب ما يقتضيه العدل، وإن أصدق وزن للبلاد هو إقامة العدل ولا تكذبن وأنت عظيم».
وكانت هذه الشكوي أمام المحكمة فأمر «رنزي» بسوطين وضرب الفلاح لكنه استمر في أكثر الشكاوي خلوداً عبر التاريخ ولم ييأس وتلا شكواه الرابعة أمام معبد «أرسافيس» وقال «أنت.. أيها الممدوح، ليت أرسافيس الذي تخرج من معبده يمدحك، لقد قُضي علي الخير».
ثم جاءت الشكوي الخامسة التي اتهم الفلاح فيها «رنزي» بأنه ينحاز للص، وأنه لا يضرب علي يد السارق.
ثم أتي الفلاح للمرة الثامنة لمدير البيت العظيم وقال له «إنك جشع وهذا لا يتفق معك إنك تسرق وهذا لا يليق بك ليس الخوف منك هو الذي يجعلني أشكو لك.. إنك تملك قطعة أرضك في الريف وخبزك في المخبز والحكام يعطونك ومع ذلك تغتصب.. أقم العدل لرب العدل» ثم جاءت الشكوي العاشرة علي نفس الوتيرة!!